وروى الخطيبُ في "تاريخه": أنّ هارون الرشيد كان له جارية غُلامِيَّة، تصبُّ على يدِه، وتقِفُ على رأسِه، وكان المأمونُ يُعْجَبُ بها وهو أمْرَدُ، فبينا هي تصُبُّ على هارونَ من إبْريقٍ معها، فأشار إليها المأمون بقُبْلةٍ، فزَبَرتْه بحاجبِها، وأبْطأتْ عن الصبِّ، فنظر إليها هارون، فقال: ما هذا؟ فتلَكَّأت عليه - ضَعي ما معك، عليَّ كذا إن لم تُخْبِريني لأقْتُلَنَّك. فقالتْ: أشار إليّ عبد الله بقُبْلةٍ، فالْتفَت إليه، وإذا هو قد نزَل به من الحياء والرُّعب ما رحمه منه، فاعْتنَقه، وقال: أتُحِبُها؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين! فقال: قُمْ فاخْلُ بها في تلك القُبَّة. فقام ففعل، فقال له هارون: قُلْ في هذا شِعرا. فأنْشأ يقول:
ظَبْيٌ كنَيْتُ بطَرْفِي … عن الضَّمير إليه
قبَّلْتُه من بعيدٍ … فاعْتلَّ مِن شَفَتَيْه
وردَّ أخْبَثَ رَدٍّ … بالكَسْرِ من حاجِبَيْه
فما بَرِحْتُ مَكانِي … حتى قَدَرْتُ عَلَيْه
وعن ابن أبي دُواد، أنه قال: دخل رجلٌ من الخَوارج على المأمون، فقال: ما حَمَلَك على خِلافِنا؟ قال: آية في كتاب الله تعالى. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. فقال له المأمون: ألك علمٌ بأنَّها مُنَزَّلةٌ؟ قال: نعم. قال: وما دليلك؟ قال: إجْماعُ الأمة. قال: فكما رَضيتَ بإجمْاعِهم في التَنْزيل، فارْضَ بإجماعهم في التأويل. قال: صدَقْتَ يا أمير المؤمنين!
وكان المأمون يقول: غَلَبةُ الحُجَّة أحبُّ إلىَّ من غلبة القُّدرة؛ لأنَّ غلبة القدرة تزولُ بزَوالها، وغلبةَ الحُجَة لا يُزيلُها شيءٌ.
ومن مَكارِم أخْلاقه: ما حكاه يحيى بن أكْتَم، قال: بِتُّ ليلةً عند المأمون، فعَطِشْتُ في جَوْف الليل، فقمْتُ لأشْربَ ماء، فرآني المأمون، فقال: مالك لست تَنامُ يا يحيى؟ قلتُ: يا أمير المؤمنين! أنا والله عَطْشان.