الدهلوي بـ "المدينةْ المنوّرة"، ثم إنه أخذ الرخصة من الولاة بـ "حيدر آباد"، وقنع بمائتين وخمسين ربية بدون شرط الخدمة، وقدم بلدته "لكنو"، فأقام بها مدّة عمره، درّس، وأفاد، وصنّف، وذكر.
وإني حضرت كجلسه غير مرّة، فألفيته صبيح الوجه، أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، ذكيا، فطنا، حادّ الذهن، عفيف النفس، ورقيق الجانب، خطيبا مصقعا، متبحّرا في العلوم، معقولا ومنقولا، مطلعا على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرّى في نقل الأحكام، وحرّر المسائل، وانفرد في "الهند" بعلم الفتوى، فسارت بذكره الركبان، بحيث أن علماء كلّ إقليم يشيرون إلى جلالته.
وله في الأصول والفروع قوة كاملة، وقدرة شاملة، وفضيلة تامة، وإحاطة عامة، وفي حسن التعليم صناعة، لا يقدر عليها غيره، وكان إذا اجتمع بأهل العلم، وجرت المباحثة في فنّ من فنون العلم، لا يتكلّم قطّ، بل ينظر إليهم ساكتا، فيرجعون إليه، بعد ذلك، فيتكلّم بكلام يقبله الجميع، ويقنعه كلّ سامع، وكان هذا دأبه على مرور الأيام، لا يعتريه الطيش، والحفة في شيء، كائنا ما كان.
والحاصل أنه كان من عجائب الزمن، ومن محاسن "الهند"، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف بفضله ليس فيه نزاع.
وكان على مذهب أبي حنيفة في الفروع والأصول، ولكنه كان غير متعصّب في المذهب، يتتبّع الدليل، ويترك التقليد إذا وجد في مسألة نصّا صريحا، مخالفا للمذهب.
قال في كتابه "النافع الكبير" ومن منحه (أي منح الله سبحانه): أني رزقت التوجّه إلى فنّ الحديث، وفقه الحديث، ولا أعتمد على مسألة ما لم يوجد أصلها من حديث أو آية، وما كان خلاف الحديث الصحيح الصريح أتركه، وأظنّ المجتهد فيه معذورا، بل مأجورا، ولكني لست ممن