مع أهلها لطول غيبته عنهم، فترك المنصب، وورد إلى "الشام"، وأقام بها مدة في محلة القنوات، ثم بمحلة بني كريم الدين، وتزوج بابنة القاضي برهان الدين البهنسي المقدّم ذكره، وبعد مدة قليلة طلقها، وتنازع هو وأبوها، وطال بينهما النزاع، وكان عنده غلام جميل يدعى بخندان، لم ير نظيره في الخلق والخلق، وكان مملوكا مالكا، فوقع بينه وبينه منافرة، فهرب الغلام، وأعياه تطلبه، فتوجه إلى القاضي، وشكا إليه حاله، وكان له به علاقة قلبية، وأظهر ما كان يضمره من شغفه، فكثر عليه الاعتراض، وبعد أيام ظهر الغلام، وجاء إليه، فعطف عليه، وتغاضى عما أسلفه، ثم لم يقر له بـ"دمشق" قرار، فسافر إلى "الروم"، وأقام بها، ثم أعطي قضاء "طرابلس الشام"، وبعد ما عزل عنها ورد إلى "دمشق"، وأقام بها مدة، وكان ذلك في سنة أربع وأربعين وألف.
ثم سار إلى دار الخلافة، وولي القضاء بـ"بوسنه" و"صوفية"، وكان كثير الآثار، ورأيت له أشعارًا كثيرة، فمنها هذه القصيدة، مدح بها شيخ الإسلام يحيى ابن زكريا، ومطلعها:
كل له في طريق المجد أسباب … وكل حكم له أهل وأرباب
وأنت لي سبب ما فوقه سبب … إن عددت في طريق السعي أسباب
وأنت لي سند ما مثله سند … وأنت قطبي الذى والته أقطاب
لولاك ضاعت حقوق الناس قاطبة … وكان يغلب رب العلم حطاب
لولاك ما قفل البواب منهزما … كلا ولا فتحت للفضل أبواب
كسرت بالجبر أنياب النوائب إذ … أدمت فؤادي فلم ينبت لها ناب
لبيك لبيك يا لب اللباب ومن … منه استضاءت لحسن الرأى ألباب
سرادق الشعر في أبواب عزتها … لها على حيك المرفوع أطناب
جلبت من بحر فكري كل لؤلوة … ماكان من جلب المنظوم جلاب
هذا وكم جوهر لي فيك منتظم … في اللون والشكل للرائين غلاب