وجود الأكابر إذ ذاك، بل أعلى من هذا أن البساطي -وهو شيخه- لما رام المناظرة مع العلاء البخاري بسبب ابن الفارض ونحوه، قيل له: من يحكم بينكما إذا تناظرتما؟! فقال: ابن الهمام؛ لأنه يصلح أن يكون حكم العلماء، بل حضر إليه البساطي بنسخة من تائية ابن الفارض ذات هوامش عريضة، وتباعد بين سطورها، والتمس منه الكتابة عليها بما يعنُّ له من غير نظر في كلام أحد، وسئل البساطي مرة عن من قرأ عليه فعد القاياتي والونائي ومن شاء الله من جماعته، ثم قال: وابن الهمام وهو يصلح أن يكون شيخًا لهؤلاء.
ولم يزل الشيخ يضرب به المثل في الجمال المفرد مع الصيانة، وفي حسن النغمة مع الديانة، وفي الفصاحة، واستقامة البحث مع الأدب، وفي الرياضة والكرم، واستمرّ يترقى في درج الكمال، حتى صار عالمًا متفننًا علامةً متقنًا، درَّس، وأفتى، وأفاد، وعكف الناس عليه، واشتهر أمره وعظم ذكره.
وأول ما ولي من الوظائف الكبار تدريس الفقه بقبة المنصورية، وعمل حينئذٍ إجلاسًا بحضور شيوخه، ومنهم: ابن حجر العسقلاني، والبساطي، والبدر الأقصرائي وغيرهم، وامتنع الشيخ من الجلوس صدر المجلس أدبًا بعد إلحاح الحاضرين عليه في ذلك، بل جلس مكان القارئ، وتكلم في ذلك المجلس على قوله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}، وقال: الكلام على هذه الآية كما يجيء لا كما يجب، وقد أبان فيه عن يد طولى وتمكن زائد في العلوم، بحيث أقرَّ الناس بسعة علمه، وأذعنوا له، ثم تكلم الإمام ابن حجر، فوصف علم الشيخ ابن الهمام وتفنّنه.
وقال البساطي: دعوه يتكلم، ويُتلذذ بمقاله، فإنه يقول ما لا نظير له.