للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَلَمَّا سمع السُّلْطَان إساءته الأدب استولى عَلَيْهِ ثائرة الْغَضَب، فأمر أن يكتبوا صُورَة فَتْوَى، مضمونها: من حقّر شيخ الإسلام ومفيَ الأنام فَمَا جَزَاؤُهُ عند الأئمة الْعِظَام.

فأجاب الْمُفْتِي الْمَزْبُور بِثَلَاث كَلِمَات، الْعَزْل لِلْأَبَد، وَالضَّرب الأشد، وَالنَّفْي عَن الْبَلَد، فَعَزله السُّلْطَان، وعزم على تحقيره، فَأمر بتأديبه وتعزيره، فَاحْضُرْ إلى الدِّيوَان كواحد من الأوغاد، وَضرب على رُؤُوس الأشهاد، فَلَمَّا جَاوز الضَّرْب الْحَد أَمر بنفيه عَن الْبَلَد، فارتحل وَرَايَةْ عزّه منكوسة إلى دَار الْملك "بروسه"، وَرجع بخفي حنين، وَأقَام بهَا مُدَّة سنتَيْن، لَا أنيس لَهُ، إلا الْبعد والفراق، وأيامه فِي الظلمَة كليلة المحاق:

الدَّهْر دولاب يَدُور … فِيهِ السرُور مَعَ الشرور

بَينا الْفَتى فَوق السما … وَإذا بِهِ تَحت الصخور

ثمَّ رَضِى عَنهُ السُّلْطَان، فأعطاه ثَانِيًا إحدى الْمدَارِس الثمان، ثمَّ نقل إلى إحدى الْمدَارِس السُّلْطَانِيَّة الْمَعْرُوفَة عِنْد النَّاس بالسليمانية، ثمَّ نقل من تِلْكَ العامرة إلى قَضَاء "الْقاهِرَة"، فَلَمَّا عزم على السّفر رأى مُؤنَة الْبر أكبر، فقصد الْبَحْر فِي غير أوانه فِي زمن عتوه وطغيانه، كَيفَ لَا، وَقد أدبر الرّبيع، وَأَقْبل الشتَاء، وألقت وشَاة الثلوج والأمطار برودة بَين الأرض وَالسَّمَاء، وَلبس السَّحَاب فَرْوَة السنجاب، وَعرض أقطان الثَّلج قَوس السَّحَاب على الحلج، وَكم نَاصح بذل جهده، واستفرغ فِي نصحه مجهوده، وَرب حَازِم نصيح، عرض عَلَيْهِ الرَّأْي الصَّحِيح، إلا أن سبق الْكتاب أغفله عَن طَرِيق الصَّوَاب.

إذا انعكس الزَّمَان على لَبِيب … يحسن رَأْيه مَا كَانَ قبحا

يعاني كل امْر لَيْسَ يعْنى … وَيفْسد مَا رَآهُ النَّاس صلحا

فَلم يلْتَفت إلى كَلَام وملام، قَائِلا: لَا تكترثوا بشأن الشتَاء، فإنما هُوَ برد وَسَلام مركب الْبَحْر وَأَصْحَابه يمْنَعُونَ تاليا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>