للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، فَلَمَّا انْفَصل من جَزِيرَةِ رودسِ هبت الرِّيَاح الْعَاصِفَة، وأومضت البروق الخاطفة، وأظلمت السَّمَاء، وطفت كرة الماء، واضطرب الْبَحْر، وماج، وَارْتَفَعت الأمواج، وتواتر تَوَاتر الْكَتَائِب، وهجمت هجوم العدا على المراكب، وَظهر فِي ظهر الْبَحْر أودية وجبال وأنجاد شاهقة وتلال.

فَلَمَّا شاهدوا هَذِه الأحوال غَابَتْ الشَّمْس فِي الْحَال، وعزمت على العروج والتحصن بالبروج، واصفرت وجنة الْقَمَر من خوف الْهَلَاك، وتشبث بذيل الأفلاك، وَأَقْبل عَلَيْهِم اللَّيْل، وَأَنْذرهُم بالشدة وَالْوَيْل، والسفينة بَين الصعُود والهبوط، وأهلها غارقون فِي بَحر الْيَأس والقنوط، وإذا موج عَظِيم كالجبل يدب نحوهم دَبِيب الأجل إلى الأمل.

فَلَمَّا شاهدوا الويل سَالَتْ عبراتهم كالسيل، وَأخذُوا فِي الاسْتِغْفَار والاستحلال، وشرعوا فِي التضرّع والابتهال، وطلبوا من الله الْخَلَاص، واجتهدوا فِي طَرِيق المناص، إلا أن إرادة الْجَبَّار ساقت الْمركب نَحْو التيار، فَلم يمُكن لذَلِك الفوج إلا الدُّخُول فِي الموج.

مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ … تجْرِي الرِّيَاح بِمَا لَا تشْتَهي السفن

فَلَمَّا انصب الماء عَلَيْهم، وانقض تلو قَوْله تَعَالَى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}، وَلما ارْتَفَعت تِلْكَ الطامة، وَفتح أعينهم الْخَاصَّة والعامة، تفقد كل امْرِئ صَاحبه ورفيقه ومصاحبه، فإذا المرحوم وَفرْقَة من رفقته وأرباب صحبته، فقدوا وَلم ير لَهُم أثر، وَلم يسمع عَنْهُم خبر:

كَأَن لم يكن بَين الحْجُون إلى الصَّفَا … أنيس وَلم يسمر بِمَكَّة سامر

وَحكي أنه كَانَ رَحمَه الله قَاعِدا فِي كوثل السَّفِينَة مَعَ سَبْعَة عشر نَفرا من أصحابه وخلاصة أحزابه، فَلَمَّا غشيهم من اليم مَا غشيهم، وأحاطهم ذَلِك الموج الْكَبِير، رمى بالكوثل إلى الْبَحْر، مَعَ من بِهِ من الْكَبِير وَالصَّغِير،

<<  <  ج: ص:  >  >>