فيتذاكران بالشعر والأدب والعلم، حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير، كما يجتمع على القصاص، استحسانًا لما يجري بينهما؛ فسمعتُه يومًا قد أنشد بيتًا، لا أذكره الآن، فقال له أبي: أيّها القاضي، إني أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية.
فصاح عليه أبو جعفر صيحة عظيمة، وقال، اسكتْ ألي تقول هذا، وأنا أحفظ لنفسي من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك وأضعافها. يكرّرها مرارًا.
وحدّث القاضي أبو طالب محمد بن القاضي أبى جعفر بن البهلول، قال: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل "بغداد" من الوجوه، وإلى جانبه جالس أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة، ويسلّيه، وينشده أشعارًا، ويروي له أخبارًا، فداخله الطبري في ذلك، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب، والعلم، استحسنها الحاضرون، وعجبوا منها، وتعالى النهار، وافترقنا.
فلمّا جعلت أسير خلفه، قال لي أبي: يا بنيّ، هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة مَنْ هو، أتعرفه؟ فقلت: يا سيّدي، كأنك لم تعرفه! فقال: لا.
فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
فقال: إنا لله، ما أحسنتَ عشرتي يا بنيّ.
فقلت: كيف يا سيّدي؟.
قال: ألا قلت لي في الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة، هذا رجل مشهور بالحفظ، والاتساع في صنوف العلوم، وما ذاكرتُه بحسبها.
قال: ومضتْ على هذا مدّة، فحصرنا في جنازة أخرى، وجلسنا، فإذا بالطبري قد أقبل، فقلتُ له قليلًا قليلًا: هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مُقبلًا.