الآن باسم قَاسم باشا، بَينا هُوَ فِي بعض الأسحار يطالع "نفائس الأسفار" إذ نَادَى مُنَادِي الجذبات: إن لله فِي أَيَّام دهركم نفحات، وقرع أسماع كل ساه ولاه، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، سمع هَذَا الْخطاب غلب عَلَيْهِ الشوق والانجذاب، وَترك التدريس، وَاخْتَارَ الخمول والانزواء، وأحبّ مراسم طَرِيق أرباب الزّهْد والفناء، وَتَابَ على يَد الشَّيْخ مَحْمُود النقشبندي، فَلَمَّا توجّه إلى هَذَا الطَّرِيق، وَعلم أنها صَعب مضيق، لَا تسع الأثقال والأحمال، وَلَا يسلكها إلا الأفراد من الرِّجَال، اخْتَار مهماته، وَترك مجملاته، وَبنى مَسْجِد الله، وتخلص لعبادة مَوْلَاهُ
هَنِيئًا لعبد لَهُ بلغَة … من الْعَيْش مذخورة عِنْده
يفر من النَّاس بغضا لَهم … ويأنس بِاللَّه والوحده
فَبعد مُدَّة ورد عَلَيْهِ كتاب من قَاسم باشا، باني الْمدرسَة الْمَارّ ذكرهَا، بأني قد بنيت تِلْكَ الْمدرسَة لأجلك، وشرطت درسها لَك مَا دمت حَيا، فإن لم تقبلهَا لأهدمنها من أساسها، فاضطرّ المرحوم إلى قبُولهَا، فأعطيت لَهُ ثَانِيًا بِخَمْسِينَ.
فَلَمَّا مضى عَلَيْهِ بُرْهَة من الزَّمَان ابْتُلِيَ بتعليم مصطفى خَان بن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان، فَلَمَّا وصل إليه حلّ محلا رفيعا وَمُسْندًا منيعا، وعلت كَلمته، وَارْتَفَعت مرتبته، وَكَانَ لَا يقطع أمرا إلا بمشورته، وَلَا يفعل شيئا إلا بمباشرته ومعرفته، وَبَقِي فِي أوفر جَيش وأرغد عَيْش، حَتَّى غضب أبوه، وَقصد دماره.
ثمَّ قَتله، ومحا آثاره، فَلَمَّا قتل بِحَرْبَة العَذَاب، وتقطعت بِهِ الأسباب، وقتل بَعضهم السُّلْطَان، وقهر، فَلَا جرم تفَرقُوا من سطوته شذر مذر، فَلَمَّا راْى المرحوم من بدره أقوله سَاق إلى دَار الخمول حموله، وَتوجه ثَانِيًا إلى الِانْقِطَاع من النَّاس، خوفًا من حُلُول الباس، فاستولى عَلَيْهِ من الْفقر والفاقة