وكادت أن تذْهب بلبي، فَقُمْت إلى الْمجْلس مرتاعا، وازداد تأثري فِي كل وَقت وَحين، إلى أن يفتر عَقْلِي، وَلم يبْق لي من الروية إلا الْقَلِيل.
فَنزلت الطَّرِيق، وبعت جَمِيع ملابسي الفاخرة، وَأَنا على هَذِه الْحَالة من الإعراض عَن طَرِيق الصُّوفِيَّة، وَفي أثناء ذَلِك دَعَاني أبي إليها، وكلمني فِي الدُّخُول فِيهَا، وقابلته بالإنكار والإعراض، قَالَ: وَلم أذكر حَتَّى رفع الغطاء عَن بَصرِي، وانكشف لى أحوال الْقُبُور، فَكنت ألازم المَقَابِر، وأبيت عِنْدهَا، وَكَانَ أصحابي وأقاربي فِي العذل والملامة، وأنا فِي عدم الِالْتِفَات إليهم، والإعراض عَن كَلَامهم.
فَسَأَلته رَحمَه الله عَن كَيْفيَّة رُؤْيَته واطلاعه على أهل الْقُبُور، فَقَالَ رَحمَه الله: رَأَيْتهمْ قَاعِدين فِي قُبُورهم كالإحياء فِي بُيُوتهم، فَمنهمْ من اتَّسع قَبره، فَبَقيَ فِي السعَة والحبور والرفاهية وَالسُّرُور، وَمِنْهُم من لَا يقدر على الْقيام لضيق الْمقَام، وَمِنْهُم من امْتَلَأَ قَبره بالدخان، وَمِنْهُم من أحمي قَبره بالنيران، وَرَأَيْت بَعضهم فِي غَايَة الضعْف وَالِاضْطِرَاب، ويتألم، ويضطرب، كالسحاب والسراب، وَأَنا أتكّلم مَعَهم، وأستخبر حَالهم، وأستفسر لأسباب مَوْتهمْ، فيجيبون، ويسألونني الدُّعَاء.
وأنا أجد نَفسِي فِي أثناء ذَلِك تَارَة فِي "قسطنطينية"، وَتارَة فِي "بروسه"، وَتارَة فِي غَيرهمَا من الأمكنة، الَّتِي مَا رَأَيْتهَا قطّ، وأنا فِي جمَيع ذَلِك كالهائم الولهان، الَّذِي مَسّه الجان، وَكنت فِي غَايَة الْعَجز عَن أكل الطَّعَام لظُهُور نَجَاسَته وانكشاف عدم طَهَارَته، ودامت هَذِه الْحَالة لي مُدَّة سَبْعَة أشهر، فَبينا أنا مُقيم بدار وَالِدي، وَقد انْتَشَر سَواد اللَّيْل فِي الآفاق، ونام كل من فِي الْبَيْت من الصَّغِير وَالْكَبِير، إذ جَاءَ رجل، فأخذ بيَدي، وَذهب، فَذَهَبت مَعَه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute