فمررنا بمواضع غَرِيبَة وأمكنة عَجِيبَة، مَا رَأَيْتهَا، وَلَا سَمعتهَا من قبل، حَتَّى وصلنا إلى سفح جبل، وَرَأَيْت فِيهِ شخصا قَاعِدا، فَتقدم الرجل فِيهِ، وَقَالَ: جِئْت بطلبك، وقدمني إليه، فَجَلَست بحذائه، فأخذ ذَلِتك الشَّخص بيَدي الْيُمْنَى، فَوضع فِيهَا عَلامَة، فإذا جيءَ بشخص آخر فعل بِهِ مَا فعل بِي.
ثمَّ أمرنا بِالْقيامِ وَالدُّخُول إلى حَظِيرَة هُنَاكَ، فَلَمَّا ذَهَبْنَا إليه فتح لنا بَاب الحظيرة، فَنَظَرْنَا إلى داخلها، فرأيناها مَمْلُوءَة من النيرَان الصافية، لَيْسَ فبها دُخان، وَلَا سَواد، فامتنعنا عَن الدُّخُول، فأجبرنا عَلَيْهِ، وأغلق الْبَاب من وَرَائِنَا، فَعمِلت النَّار فِينَا مَا تعْمل فِي أمثالنا، واحترقنا بهَا، بِحَيْثُ لم يبْق منا مَوضِع لَا فِي ظَاهر الْجَسَد وَلَا فِي بَاطِنه، إلا وَقد مسته النَّار.
ثمّ فتح الْبَاب، وأمرنا بِالْخرُوجِ، وَجَاء الرجل، وَأخذ بيَدي، وأوصلني إلى مَكَاني الَّذِي أخذني مِنْهُ، فَلَمَّا أصبحت، وَقَامَ وَالِدي إلى الصَّلَاة جَاءَ إليَّ، ورآني متنكرا مضطربا مِمَّا وَقع لي من شَدَائِد هَذِه اللَّيْلَة، فَسَأَلنِي عَن هَذِه الْحَالة، فقصصت لَهُ الْوَاقِعَة، فَقَالَ: إن هَذِه النَّار جذبة من نيران الْمحبَّة والهيام، ولمعة من حرارة الْعِشْق والغرام.
وإن هَذِه الْوَاقِعَة تدلّ على أنك ستصير طَالبا للحق، ومحبا للتصوف، وأربابه، قَالَ رَحمَه الله: فَمن هَذِه اللَّيْلَة أخذ ولهي فِي الانتقاص وجنوني فِي الِارْتفَاع، وَزَالَ عني بالتدريج مَا حصل لي من الْكَشْف والحركات الْمُخالفَة للْعَادَة، وَعَن لي الْميل إلى التصوّف، وَاشْتَدَّ الانجذاب إلى جناب رب الأرباب، وَدخلت فِي ربقة التَّسْلِيم وَالْعِبَادَة، وَظهر فِي أمري مَا شَاءَ الله، وأراده.
وتبت على يَد وَالِدي، وأخذت فِي المجاهدة والاشتغال، وترقيت عِنْده من منزل إلى منزل، وَمن حَال إلى حَال، ثمَّ أرسلني إلى قدوة إرباب الطَّرِيق ولي الله تَعَالَى على التَّحْقِيق صَاحب الكرامات الْمَشْهُورَة والأخبار المأثورة