حنيفة وصية أخرى، وجّهها إلى أبي يوسف بعد أن ظهر له منه الرشد وحسن السيرة والإقبال على الناس، يعرفه فيها كيف يسوس الناس، وقد ذكرت بنصّها في "مناقب الموفّق المكّي" و"مناقب صاحب الفتاوى البزازية"، وفي "الأشباه والنظائر" لابن نجيم وغيرها، وقد رسم له أستاذه فيها طريق المعاملة مع الناس على أحكم أسس وأتم جمع ونفع، ولا تزال ترشد المجتمع العلمي إلى طريق النجاح والتوفيق في التعليم والإرشاد، فلم أرض إخلاء الكتاب من تلك الوصية (١) القيّمة للغاية، وأبو حنيفة يقول فيها:
يا يعقوب! وقّر السلطان، وعظّم منزلته، وإياك والكذب بين يديه، ولا تدخل عليه في كلّ وقت، وفي كل حال ما لم يدعك لحاجة علمية، فإنك إن أكثرت الاختلاف إليه تهاون، واستخف بك، وصغرت منزلتك في عينه، فكن منه ما أنت من النار تنتفع بها، وتتباعد عنها، ولا تدن منها، فإنك تحترق، وتتأذى منها، فإن السلطان لا يرى لأحد ما يرى لنفسه.
وإياك وكثرة الكلام بين يديه، فإنه يأخذ عليك ما تفوّه به ليري من نفسه بين يدي حاشيته أنه أعلم منك، وأنه يخطئك، فتصغر بذلك في أعين قومه، ولتكن إذا دخلت عليه تعرف قدرك وقدر غيرك، ولا تدخل عليه وعنده من أهل العلم من لا تعرفه، فإنك إن كنت أدون حالا منه، لعلّك تترفع عليه فيضرّك، وإن كنت أعلم منه لعلّك تنحطّ عنه، فتسقط بذلك من عين السلطان، وإذا عرض عليك شيئا من أعماله، فلا تقبل منه، إلا بعد أن تعلم أنه يرضاك ويرضى مذهبك في العلم، والقضايا، كيلا تحتاج إلى ارتكاب مذهب غيرك في الحكومات، ولا تواصل أولياء السلطان، وحاشيته، بل تقرب
(١) ويوجد فرق يسير بين ألفاظ روايتيها، ونحن جرينا مع الموفق (ز).