مُنْتَبِهين كلَّ الانتباه، لا يَعْتَوِرُهم شيءٌ مما يُصَنَّف ضمنَ السآمة أو الإغفال الفكريّ، الذي ينتاب المُتَلَقِّين والمُسْتَمِعِين إذا كان المُحَاضِر أو الخطيب يفقد لباقةَ الطرح، التي كانت ميزتَيه البارزة بين كثير من معاصريه؛ فلم يكن أستاذًا يمتهن التدريس لكسب لقمة العيش فقط، أو لملأ الفراغ في حياته، أو يعمل مُوَظَّفًا لأنَّهُ لم يجد عملًا؛ فهو يمارس التدريس مُجَرَّدًا من كلّ معنى للحرص والاهتمام؛ وإنّما كان أستاذًا مُلْهَمًا ومُعَلِّمًا مطبوعًا، يجمع مُعْظَمَ الخصائص، التي ينبغي أن يمتاز بها كلُّ من يُصَنَّف"مُعَلِّمًا مثالِيًّا"؛ فكان يُجَهِّز الدرسَ، ويُحَضِّر المحاضرةَ قبل أن يلقيها، وكان يحمل قدرةَ الإقناع وتقريب الموادّ إلى أفهام الطلاب بأسلوبه المِمْتِع، ولسانه الرشيق، ورصيده الثَّرِّ من الدراسة المختمرة، وقبل ذلك وبعده بذكائه المُتَيَقِّظ وحضور بديهته وإرهاف ذهنه؛ الأمرُ الذي كان يقدر به کسب العقول، وإقناع الحضور، وربّما على صنع الحقائق.
وكانت لديه قدرة، لا يُسْتَهَانُ بها على وضع فقرات ساخرة عاجلة، ذات إشارات بارعة، ودلالات شتّى، تجعل المُتَلَقِّين، والحضورَ يهيمون في متاهات معانٍ حائرة، ولا سيّما إذا كانوا لا يملكون من الرصيد العقليّ ما يُتِيح لهم أن يَفْطَنُوا لأبعاد حديثِ رجلٍ ذكيٍّ ذَرْبِ اللسان مثلِته. وذلك كلُّه جعله أستاذًا فريدًا، جمَّ المنافع، كثيرَ الإفادة، ينتظر الطلابُ بعد ما كانوا ينتهون من درسه يومًا درسه الذي سيُلْقيه في اليوم الآتي، انتظارَ المحِبِّ لحبيبه. وذلك - حقًّا - هو ضريبةُ التَّقديرُ، التي ظلَّ الطلابُ المُوَفَّقُون يؤَدُّونها دائمًا نحوَ أستاذهم المُوَفَّق. وتلك سمةٌ بارزةٌ، يتّسم بها كلُّ أستاذ بارع مُوَفَّق، خُلِق لينفع، وعَرَفَ كيف ينفع بشكل أوفى.