فناهيك بأمثال هؤلاء أعلام العصر عهودا عدولا قولا وعملا، وكثيرا ما رأينا في جملة من أسفاره في "بلاد الفَنْجاب" أنه كان يجتمع لزيارته طوائف من المشايخ، والعلماء المدرّسون المكِبُّون على مطالعة الفنون ليلا ونهارا، ويسألونه حلّ ما أشكل عليهم في أيّ كتاب من أيّ علم كان.
فرجل يسأل في الفقه، ورجل في الحديث، وعالم في معضَلات النحو، وأخر في دقائق العلم الإلهية والطبيعية، وغيره في العلوم الآلية، وواحد في التاريخ بل في مهمّاته ومشكلاته، وآخر في سير المصنّفين وعاداتهم، هكذا واحد بعد واحد، فتارة يخاطب هذا وتارة يجاوب هذا، وتارة ذلك، ومرّة ذاك، فيشتفي، ويَشْفي، حتى ترى أنه بحر يموج، أو مُزنة تَهْمِي، أو واد يسيل، إذا شرع في الحديث خِلْتَ أنه لا يُحسِن غيرَه، وإذا شرع في استطراد غوامض الفقه ظننتَ أنه لا يعلم غيرَه، وإذا شرع في البلاغة ودقائقها حسبتَ أن الشيخ عبد القاهر رحمه الله عادَ منشورا.
هكذا كان حاله في دقائق العلوم ومعارفها، فما ظنّك بقواعدها العامّة ومسائلها المشهورة، وذكَّرني حاله هذا ما ذكر الحافظ ابن القيّم في "هداية الحَيَاري" في حقّ حبر الأمة عبد الله بن عبّاس، حيث قال: قال عطاء بن أبي رَبَاح: ما رأيتُ مجلسا قطّ أكرم من مجلس ابن عبّاس، أكثر فقها وأعظم جفنة، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر، يُصدِرهم كلّهم في واد واسع …
وقال: وقال الأعمش: كان ابن عبّاس إذا رأيتَه قلتَ: أجمل الناس، فإذا تكلّم قلتَ: أفصح الناس، فإذا حدّثَ قلتَ: أعلم الناس. وقال الحافظ ابن القيّم نفسه في حقّ هذا الحبر: وكان بحرا لا ينزِف، لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علما، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام والفرائض يقول القائل: لا