صدري، فراجعتُ حضرة الشيخ الأنور -أنار الله مرقدَه- فشفى صدري بكلمات مختصرة جامعة منقّحة، تطمئنُّ بها النفوس، وتقرّ به الأعين، وتسكن إليه القلوب، أو أرشدني إلى زبر وأسفار يكون هناك المحيص عنها، فيكون الأمر كما يقول.
وهكذا كلّما كان يسأل عن دقائق المسائل مما بلغ الغاية دقّتها، ومما تعسّر على الأذكياء المتبحّرين انفصامها، يجيب عنها ارتجالا من غير رَوِيَّة وإمعان نظر، كأن قد حلّ جميع هذه المشكلات من زمان مديد، وفرغ عنها مطمئنّ القلب، فقد رزقه الله علما وسيعا، أحاط بسائر مشكلات العلوم من جميع جهاتها.
اشتهرَ في الناس أنه كان في قوّة حافظته، ومواظبته المطالعة ليلا ونهارا، وتبحّره في العلوم، فقيد المثل وحيدا، ولكن الذي هو أكبر مزاياه عندى أنه كان خبيرا مطلعا على أرواح العلوم وحقائقها، وهذه هي غاية معارج العلم ونهاية مدارجه.
لو سألني أحد: هل رأيتَ الحافظ ابن حجر العسقلاني؟ وهل لاقيتَ الحافظ تقى الدين ابن دقيق العيد؟ أو سلطان العلماء عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله؟ فلو أجبته بقولي: نعم، لكنتُ صادقا تشبيها واستعارة، ولا غروَ، فإنه كان متصفا بتلك المزايا التي امتازوا اليوم بها في الأمة، ولو سمحت الأيام بوجوده في تلك القرون المباركة لعدّ في طبقتهم، ولكان مثلهم اليوم في الأمّة الحاضرة، فأحسُّ أن اليوم قد توفي الحافظ ابن حجر، والحافظ ابن دقيق العيد، وسلطان العلماء، وحُرِمْنا من استفادة علومهم وبركاتهم اليوم.
ثم فوق ذلك ما جمع الله فيه من الورع، والزهد، والتواضع، وحسن الخلق، شمائل كريمة، قلّما تجتمع في عالم، وإن اتّصف بها أحد واجتمعتْ