مستقلّ في كلّ علم إلا الفقه. وكثيرا ما إذ أغوص في تخريج أقوال الأئمة المجتهدين، فقد يقصُر خَبَيِي عن إدراك مدارك الاجتهاد، وأتحيّر لدقّة مداركهم وبعد كنهها.
قال الراقم -شيخنا البنوري- تبصَّيرْ واعتبرْ بهذا القول من هذا الشيخ الذي كان حبر الأمّة في عصره، لو رأيته حين كان يخوض في غمار الفقه ويغوص في بحاره، وطفق يبيّن تخريج أقوال الأئمة ومنشأ اختلافاتهم، وترجيح بعضها على بعض: لرأيت سيلا يَهْمِي أو بحرا يموج. وتمثل لديك قول المتنبّي:
ووجه البرح يُعرَف من بعيد … إذا يسجُو فكيف إذا يموج.
ولقلتَ: كأنّ روح فقيه الأمّة إمامَ الدين والدنيا نعمانَ الكوفي تُدَنْدِنُ -أن تردّد- في حلقوم الشيخ الأنور، ولكن مع هذا الفضل الباهر الذي كان يُدهش العقول ويحيّر الفحول يعترف بهذا، فما ذلك إلا لغور كنه مدارك الفقه، ووُعُور مسالكه وصعوبة مراحله. وهذا دليل بيّن وبرهان ساطع على وصول هذا الفقيه الحبر إلى أقصى مدارك العلم ومعارج الديانة ومدارج الإنصاف.
فدع السفهاءَ والجَهَلَة الذين زعموا أن الاجتهاد أمر سهل هيّن ليّن، يقدر عليه كلّ مَنْ أحاط بكتاب "بداية المجتهد" لابن رشد الفقيه المالكي، أو الحَمْقَى الذين يزعمون أن كلّ أحد يقدر على الاجتهاد بالعبور على "القرآن" وظواهر الأخبار، فيحرم عليه تقليد مذهب أحد من أعيان الأمّة! فيُطنطِنون هؤلاء في كتاباتهم ومؤلّفاتهم طَنينَ الذباب، ويرمون العلماء الربّانيين بعُوَائهم كالذئاب. ومنشأ كلّ ذلك الجهل بمعرفة مراتب السلف، والقصور عن فهم مداركهم، وفوق كلّ ذلك الحَمَق والسَّفَه البيّن العُوَار. وهذا داء أعيا الأطباءَ دواءُه.