أئمة الفقه وأتباعهم: وقد مضت طوائف الأمّة على إجلال هؤلاء الأئمة مكتفين بالأخذ والردّ في الاحتجاج على المسائل والموازنة بين أدلة كلّ طائفة، كما تقضى به أمانة العلم، إلى أن حدثت فتنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون العبّاسي، وكان بين رواية الحديث أناس لم يتقنوا النظر، ولم يمارسوا استنباط الأحكام من الأدلّة، فإذا سئل أحدهم عن مسألة فقهية لا يجهلها صغار المتفقِّهين، يجيب عنها بما يكون وصمة عار أبد الآبدين، وكانت فلتات تصدر من شيوخهم في الله سبحانه وصفاته مما ينبذه الشرع والعقل في آن واحد، فرأى المأمون امتحان المحدّثين والرواة في مسألة كان يراها من أجلى المسائل، ليوقف موقف التروي فيما يرون، ويروون، فأخذ يمتحنهم في مسألة القرآن، يدعوهم إلى القول بخلق القرآن، ويضطهدهم على ذلك ملوما فيما اختاره من الوسيلة في اختيارهم، غير موفّق فيما توخّاه، واستمرّت هذه الفتنة من عهد المأمون إلى عهد المتوكّل العبّاسي، ولقي الرواة صنوف الإرهاق طول هذه المدّة، فمنهم من أجاب مرغما، من غير أن أن يعقل المعنى، ومنهم من تورّع من الخوض فيما لم يخص فيه السلف، وكان نزاع القوم بحسب الظاهر فيما بالأيدي، ودعوى قدمه تكون مكابرة.
وأما الكلام الذي قام باللّه سبحانه، وهو صفة من صفاته تعالى، فلا شكّ في قدمه قدم باقي صفاته الذاتية الثبوتية، كم صرّح الإمام بأن القرآن من علم اللّه، وعلم الله قديم، وبين أن القرآن باعتبار وجوده في علم الله سبحانه قديم، ولكن دهماء الرواة كانوا بعيدين عن تعقل محلّ النزاع وتحريره، وكان بين أهل الغوص على المعاني ونقلة الألفاظ جفاء متوارث، وحيث كانت النقلة متمسّكين بحرفية ما يروونه، غير معوّلين على أفهام الآخرين في النصوص، يرموتهم بمنابذة السنّة عند عدم موافقة أفهام هؤلاء لأفهامهم أنفسهم، وفي هؤلاء المكثرين من الرواية بدون