اهتمام بالتفقّه والدراية، ويقول شعبة كنت إذا رأيتُ رجلًا من أهل الحديث يجئ أفرح به، فصرت اليوم ليس شيء أبغض لي أن أرى واحدا منهم، ويقول ابن عيينة: أنتم سخنة عين، لو أدركَنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربا، ويقول الثوري: ليس طلب الحديث من عدد الموت، ويقول أيضًا: لو كان هذا الحديث خيرا لنقص كما ينقص الخير، ويقول عمرو بن الحارث (شيخ الليث): ما رأيتُ علما أشرف وأهلا أسخف من أهل الحديث، إلى غير ذلك، كما في "جامع بيان العلم" لابن عبد الير، و "المحدّث الفاضل" للرامَهرمزي وغير بها، ومما زاد في الشقاق بين الفريقين انتداب قضاة في تلك البرهة لامتحانهم في مسألة خلق القرآن، وغالب هؤلاء القضاة كانوا يرون رأي أبي حنيفة وأصحابه في الفقه، ويميلون إلى المعتزلة في مسائل الامتحان، فلمّا رفعت المحنة في عهد المتوكّل أخذ ردّ الفعل مجراه الطبيعي، من غير أن يفيد ما بدأه المأمون شيئًا مما كان يتوخَّاه، سوى استفحال التعصّب والتطرّف بين الفريقين، وقد انقلب الاضطهاد في عهد المتوكّل إلى عكس سابقه، وكان أهل الرِّواية يغلب عليهم قلّة التبصّر في المسائل، يندفعون في الوقيعة كلما ضاقتْ حجَّتهم، اندفاعا لا يبرره دليل، ولا شبه دليل، فسلوا سيف النقد على ممتحنيهم القضاة (بحق)، وعلى أئمة هؤلاء القضاة في الفقه، الذين لا ناقة لهم في الأمر، ولا جمل (من غير حق)، حتى ساووا بين القضاة وأئمتهم الأبرياء، ولسان حال أبي حنيفة وأصحابه يقول:
وقد أطال عثمان بن سعيد الدارمي المجسّم الوقيعة فيه، وفي بشر بن غياث، ومحمد بن شُجاع الثلجي في نقده، ظالما أن القضية تكسب بالبذاءة، وينقلب بها ضلالة هدي، وهو المثبت لله الحدّ والمكان والثقل والمسافة، ونحو ذلك، مما ينزل أهل العلم، مع هؤلاء إله العالمين منها، وهذا