للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فهذا هو فقهُ "العراق" و"الحجاز" الذي كان عليه أئمة الأمصار، من العلماء الذين كانوا في أوائل القرن الثاني، وهو المائة الثانية من الهجرة النبوية، على صاحبها الصلاة والتحية.

وأما فقه المتأخّرين، أعني فقه الأئمة الذين ظهروا بعدَ القدماء في آخر المائة الثانية، وأوائل المائة الثالثة، بعد ما تقادَمَ الزمان، وتوفي التابعون ومَنْ عاصَرَهم ممن تَبِعَهم من الأئمة، حين غاب عملُ هذه الطبقة عن المشاهدة، فنشأ هؤلاء الأئمة الذين لم يُشاهدوا العمل، وإنما بلغهم الروايات باختلافٍ كثير، فلجأوا إلى نقد الروايات بالرواة، ولذلك وضعوا الكلام في الرجال جَرْحًا وتعديلا وتوثيقًا وتضعيفا، وقد سُمِّيَ هذا الكلامُ والبحثُ بعلم أسماء الرجال، فعملوا برواياتٍ عرفوا عدالةَ رُوَاتِها بمعيارِ أسماءِ الرجال، فهذا هو مِعيارُ الأئمة المتأخّرين لنقدِ الروايات.

ولا يخفى على من طالع كتب أسماء الرجال، أنَّ من الرواة من هو عادلٌ عند إمام، وغيرُ عادل عند آخرَ، وذلك لأنَّ الأصل في الجرح والتعديل قولُ من عاصرَ الراوي، لا مَنْ بعدَهُ، لأنه لا سبيلَ إلى معرفة من لم يُعاصره، ولاريبَ في أنَّ من المعاصرين من عرف عدالة الراوي بظاهر حاله، وخَفِيَ عليه مايخالفُ عدالته، وقد اطَّلَع على جَرْحِهِ غيرهُ ممن عاصرَه ذلك الراوي، فظهر الجرح في الراوي بقول معاصرٍ آخر، فاختلفتْ أقوالُ المعاصرين في الجرح والتعديل، ولذلك وضعوا ضابطةً: "أنَّ الجَرْحَ مقدَّمٌ على التعديل".

والغرضُ أن هذا المِعْيارُ هو الذي نشأ منه الاختلاف بين الفقهين: فقه المتقدّمين وفقه المتأخّرين، فإن المتأخّرين اطَّلعوا على روايات زعموا أنّ رُواتها عُدُولٌ، ورفَضوا رواياتٍ أخرى تُضادُّ رواياتهم، وقد كانت هذه الروايات صحيحة برُواةٍ كانوا عادِلين بزعم المتقدّمين، ومع ذلك فالروايات التي عَمِلَ بها

<<  <  ج: ص:  >  >>