يزول، وكان أبو يوسف إذا ناظره يكثر الحركة، حتى يجيئ، فيجلس بين يديه، أو قال بالقرب منه، فكان زفر يقول: إن هذه أبواب "كندة"، فإن أردت أن تفرّ فخذ في أيّها شئت.
وذكر عن وكيع ما نصّه: لما مات أبو حنيفة أقبل الناس على زفر فما كان يأتي أبا يوسف إلا نفر يسير، النفسان والثلاثة. فكأن جو "الكوفة" صفا لأبي يوسف بعد انتقال زفر إلى "البصرة"، بالنظر إلى هذه الروايات، على أنه ليس بقليل في الروايات ما يفضل جانب أبي يوسف، منها كون أبي يوسف أوسع صدرا بالتعليم من زفر، ومنها ما ساقه الخطيب بطريق حمّاد بن أبي حنيفة أنه قال: رأيت أبا حنيفة يوما، وعن يمينه أبو يوسف، وعن يساره زفر، وهما يتجادلان في مسألة، فلا يقول أبو يوسف قولا إلا أفسده زفر، ولا يقول زفر قولا إلا أفسده أبو يوسف إلى وقت الظهر، فلمّا أذن المؤذن رفع أبو حنيفة يده، فضرب بها على فخذ زفر، وقال: لا تطمع في رياسة ببلدة فيها أبو يوسف، قال: وقضى لأبي يوسف على زفر، وفي معناه ما ذكر الخطيب بسنده عن عبد الرزاق بن همام عن محمد بن عمارة أنه قال: رأيت أبا يوسف وزفر يوما افتتحا مسألة عند أبي حنيفة من حين طلعت الشمس إلى أن نودي بالظهر، فإذا قضى لأحدهما على الآخر، قال له الآخر: أخطأت ما حجتك؟ فيخبره حتى كان آخر ذلك أن قضى لأبي يوسف على زفر حين نودي بالظهر، فقام أبو يوسف، قال: فضرب أبو حنيفة على فخذ زفر، وقال: لا تطمعنّ في الرياسة بأرض يكون هذا بها.
وحضور الأستاذ في المناظرة بين تلميذيه هكذا ومصارحته لهما بالصواب والخطأ طريقة بديعة في التدريب على المناظرة في العلم، ومنهج رائع في شحذ الأذهان وتنمية الملكات، وعلى كلّ حال هما كانا كفرسي رهان، حتى إن أبا حنيفة قال يوما: أصحابنا هؤلاء ستة وثلاثون رجلا، منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، ومنهم ستة يصلحون للفتاوى،