وكان ابن المبارك من صِيانة العلم، وعدمِ ابْتذاله لأهل الدّوَل وأهلِ المناصب، ومَن ليس له بأهلٍ، على جانبٍ عظيم.
ورُوِيَ أنَّ رجلا من بني هاشم جاء إليه يسْمعُ منه، فامْتنع ابنُ المبارك، فقال الهاشِمِيُّ لغُلامِه: قُمْ بنا. فلمّا أراد الرُّكوب، جاء ابن المبارك ليُمْسِك برِكابه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، لا تَرَى أن تُحدِّثني، وتُمْسِكَ برِكابِي؟ فقال: رأيتُ أن أُذِلَّ لك بدنِي، ولا أُذِلُّ لك الحديث.
وعن الفُضيل بن عِياض، أنَّه قال، وهو بـ "مكة": وربِّ هذا البيتِ ما رأتْ عينايَ مثلَ ابن المبارك.
وقال عبد الله بن سِنان: قدم ابنُ المبارك "مكة" وأنا بها، فلمّا خرَج شيَّعه سُفْيان بن عُيَيْنَة، والفُضَيْل بن عِياض، وودَّعاهُ، فقال أحدُهما: هذا فقيه أهل المشرق. وقال الآخر: وفقيه أهل المغرب.
وقال نُعيم بن حَمّاد: كان ابنُ المبارك إذا قرأ كتاب "الزهد"، كأنَّه ثورٌ قد ذُبح، لا يقدرُ أن يتكلّم.
وقال أبو عمر ابن عبد البَرّ: لا أعلم أحدا من الفقهاء سَلِم أن يُقال فيه شيء، إلا عبدَ الله بن المبارك (١).
وذكر ابنُ عَساكر في "تاريخ دمشق" لعبد الله بن المبارك ترجمة واسعة، أحْبَبْتُ أن ألخِّص منها ما يكون فيه قدوةٌ لأهل العلم، وهادٍ لأهل الرَّشاد، وطريقٌ لأهل النّجاة، ومُبِينٌ لما كان عليه عبد الله من العلم والدين والورع وغير ذلك، وإن كان فيما ذكرناه كفاية، فإنَّ مثلَ أخبار عبد الله وأوصافه، لا يَمَلُّ سمَاعَها إلا مُبْتدع، عَمِيَتْ بَصيرته، ولم تخْلُصْ من الكَدَر سَريرته؛ فمِن ذلك ما رُوِي، أنّ عبد الله بن المبارك، رضي الله تعالى عنه، قال - وقد سُئل عن أول زُهدِه - إنِي كنتُ يوما في بُستان، وأنا شابٌّ،