عن التنقيب عائق، ولا يحول دون فحصه تواكل ولا تكاسل، ولا يزهده في الأخذ عن أقرانه عمّن هو دونه كبر النفس وسعته في العلم، بل طريقته الدأب ليل نهار على نشدان طلبته أينما وجد ضالّته.
وهذا الإخلاص العظيم وهذا البحث البالغ جعلا لكتابه من المنزلة في قلوب الحفّاظ ما لا تساميه منزلة كتاب من كتب التخريج.
والحق يقال: إنه لم يدع مطمعا لباحث وراء بحثه وتنقيبه، بل استوفى في الأبواب ذكر ما يمكن لطوائف الفقهاء أن يتمسّكوا به، على اختلاف مذاهبهم من أحاديث، قلّما يهتدي إلى جميع مصادرها أهل طبقته، ومن بعده، من محدّثي الطوائف، إلا من أجهد نفسه إجهاده، وسعى سعيه، لوجود كثير منها في غير مظانّها.
بل قلّ من ينصف إنصافه، فيدوّن أدلّة الخصوم تدوينه، غير مقتصر على أحاديث طائفة دون طائفة، مع بيان ما لها وما عليها بغاية النصفة، بخلاف كثير ممن ألّفوا في أحادث الأحكام في المذاهب، فإنك تراهم يغلب عليهم التقصير في البحث، أو السير وراء أهواء، فالتقصير في البحث يظهر المسألة القوية الحجّة بمظهر أنها لا تدلّ عليها حجّة، والسير وراء هوى تعصّب، يأباه أهل الدين.
وأخطر ما يغشي على بصيرة العالم عند النظر في الأدلّة هو التعصّب المذهبي، فإنه يلبس الضعيف لباسَ القوي، والقوىّ لباس الضعيف، ويجعل الناهض من الحجّة داحضا، وبالعكس، وليس ذلك شأن من يخاف الله في أمر دينه، ويتهيّب ذلك اليوم الرهيب، الذي يحاسب فيه كلّ امرئ على ما قدّمت يداه.
فإذا وجد المتفقّه من هو واسع العلم غواصّ، لا يتغلّب عليه الهوى بين حفّاظ الحديث، فليعضّ عليه بالنواجذ، فإن ذلك الكبريب الأحمر بينهم.