والاختناق، وربما تصعد إلى الدماغ، فتحدث شقيقة ثاقبة، وصداعا لذاعا، كأنها ضربات الدقاق، وإلى الله المشتكى، وهو المستعان.
فهذه لا يسع النطق ببنت شفة، فضلا عن إملاء كتاب أو إنشاء صحيفة خطاب إلى غير ذلك.
ولعلّك تتعجّب أنه كان مع هذه الأمراض المؤلمة والأسقام المفجعة لطيف الطبع، حسن المحاضرة، جميل المذاكرة، فصيح المنطق، مليح الكلام، ذا تواضع، وبشاشة، وتودّد، لا يمكن الإحاطة بوصفه ومجالسته هى نزهة الأذهان، والعقول بما لديه من الأخبار، التي تنشف الأسماع، والأشعار المهذّبة للطباع، والحكايات عن الأقطار البعيدة وأهلها وعجائبها، بحيث يظنّ السامع أنه قد عرفها بالمشاهدة، ولم يكن الأمر كذلك، فإنه لم يعرف غير "كلكته"، ولكنّه كان باهر الذكاء، قويّ التصوّر، كثير البحث عن الحقائق، فاستفاد ذلك بوفود أهل الأقطار البعيدة، إلى حضرة "دهلي"، ولأنه قد صنّف الناس في الأخبار مصنّفات، يستفيد بها مما يقرب من المشاهدة.
وكان الناسُ يقصدونه ليستفيدوا من علمه، والأدباء ليأخذوا من أدبه، ويعرضوا عليه أشعارهم، والمحاويج يأتونه ليشفع لهم عند أرباب الدنيا، ويواسيهم بما يمكنه، وكرمه كلمة إجماع، والمرضى يلوذون به لمداواتهم، وأهل الجذب والسلوك يأتونه، ليقتبسوا من أشعّة أنواره، وغرباء الديار من أهل العلم والمشيخة ينزلهم في منزله، ويفضل عليه بما يحتاجون إليه، ويسعى في قضاء أغراضهم، ونيل مطالبهم، وإذا جالسه منحرف الأخلاق أو من له في المسائل الدينية بعض شقاق جاء من سحر بيانه بما يؤلّف بين الماء والنار، ويجمع بين الضبّ والنون، فلا يفارقه إلا وهو عنه راض.
قال الشيخ محسن بن يحيى الترهتي في "اليانع الجني": إنه قد بلغ من الكمال والشهرة، بحيث ترى الناس في مدن أقطار "الهند"، يفتخرون باعتزائهم إليه، بل بانسلاكهم في سمط من ينتمى إلى أصحابه.