لمن فهم عنها، دار غنى لمن تزوّد منها، مهبط وحي الله، ومصلّى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنّة، فمن ذا الذي يذمّها! وقد آذنت بينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها، وشبهت بسرورها السرور، وببلائها البلاء ترغيبا، وترهيبا، فيا أيّها الذامّ لها المعلّل نفسه! متى خدعتك الدنيا، ومتى استدمت، أبمصارع آبائك في البلى أم بمضاجع أمّهاتك في الثرى:
إذا نلت يوما صالحا فانتفع به … فأنت ليوم السوء ما عشت واحد.
سياق الأثر فيه منع الذمّ وإيثار بالزاد، وحثّ على الأهبة، وعظة بالعبرة، {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وبينما الأمراء لديه جاء السلطان إليه، وسأله البركة بإقامته في الملك، وليعمل في دنياه لآخرته بيمن صحبته، فأجاب بأن "مكّة" شرّفها الله تعالى تشتمل على مواطن الإجابة، الدعاء لكم بها أوفق للحال، وأصلح للمآل، وقدما قيل: إن الدين والدنيا ضرّتان، لا تجتمعان، فكان يختلج في صدري إمكانه، فأحببت بأن أكون على بينة منه بالتجربة، فأعملت الفكر فيه، فحملني على السفر من "مكّة" إليكم، لتوفيق كنت رأيته منكم، فلمّا اجتمعت بكم، وكان ما سبق ذكره من توفيقكم، ومن خذلان من فضحه الامتحان علمت بالتجربة أنهما ضرّتان لا تجتمعان، وقد حصل ما جئت لأجله، فلزمني الآن صرف الوقت في التوجّه إلى بيت الله، وإمضاء العمر في جواره:
في مكّة الوقت قد صفا لي … بطيب جار بها ودار
وخفض عيش جوار رب … فذاك خفض على الجوار
قال: وهنا من ينوب عني في الحضور، وهو الموفّق للرشد عبد الصمد، وفيه أهلية للدعاء، فالتمسوه منه، وقد أذنت له، وللإذن تأثير في القبول،