ثم قال لي: كيف يقول قرآنكم: {يَاأُخْتَ هَارُونَ}، وبينه وبينها ألف من السنين، فقلت له: أنت أعجمي، لا تعرف لغة العرب، كيف مبناها، فقال لي: وكيف ذلك؟ فقلت له: يطلق الأخ في لغتهم على الأخ النسبي، وعلى الأخ الوصفي، والمراد هنا الثاني، ومعنى الآية يا أيتها المتصفة عندنا بالعفة والديانة والعبودية مثل هارون الموصوف بتلك الصفات الكاملة، وهذا المعنى في لسان العرب شائع، وفي مجاراتهم ومجاري أساليبهم ذائع، فوقف حمار الشيخ في الطين، ولما رآني صغير السن، وكان سني إذ ذاك نحو تسع عشرة سنة. قال لي: تصلح أن تكون مثل ولد ولدي، فمن أين جاءتك هذه المعرفة التامة؟ فقلت له: جميع ما سألتني عنه هو من علوم البداية، ولو خضت معي في مقام النهاية لأسمعتك ما يصم أذنيك، وفي هذا القدر كفاية، فترك المناظرة، ورجع القهقرى، وشاع صيتي في "مالطة" بين الرهبان والكبراء، وكنت إذا مررت في السوق يحترموني، وما خدمت كافرًا قط.
وكان سبب خلاصي رؤيا مبشرة من يومها، ركبت سفينة النجاة متوجهًا لـ "إسكندرية"، ثم منها لـ "مصر القاهرة"، ثم سافرت لـ "الحجاز" مرارًا، ودخلت "اليمن" و"عمان" و"البحرين"، و"البصرة"، و"حلب"، و"دمشق"، وتوجهت لـ "الروم"، ثم ألقيت عصا التسيار في "بيت المقدس" العطير الأطوار، وجاءتني الفتيا، وأنا لها كاره، وأنشد قول من قال:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته … على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه … إذا لم يكن عن ساحة السيف مزحل
وتمثلت بيتي امرئ القيس، وهما بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه إلخ، ولما وصلت لـ "لروم" باب المراد، وتمتعت بتلك المهاد، متوجهًا بتاج فتوى الحنفية إلى "القدس" الشريفة الرفيعة العماد، وعزل مرارًا.