جهة، فشرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، وكلّ من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالأولية برواته ومخرجيه، ويكتب له سندا بذلك، وأجازه بسماع الحاضرين، فيعجبون من ذلك.
ثم إن بعضا من أفاضل علماء الأزهر ذهبوا إليه، وطلبوا منه إجازة، فقال لهم: لا بدّ من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة كلّ يوم اثنين وخمسين من كلّ جمعة، فشرع في "صحيح البخاري"، وصار يملئ عليهم بعد قراءة شيء من "الصحيح" حديث المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه، ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجّبون من ذلك، فازداد شأنه، وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها، من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني، فانتقل من الرواية إلى الدراية، وصار درسا عظيما، وازدادت شهرته، وأقبل الناس من كلّ ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته، ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم، وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء، فيقرأ لهم شيئا من الأجزاء الحديثية كثلاثيات البخاري، أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة، وصاحب المنزل وأصحابه، وأحبابه وأولاده، وبناته ونسائه من خلف الستائر، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر، والعود مدّة القراءة، ثم يجتمعون كذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين، حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب تحت ذلك "صح ذلك".
وهذه كانت طريقة المحدّثين في الزمن السابق، وطلب إلى الدولة العلية في سنة أربع وتسعين، فأجاب، ثم امتنع، وطار صيته في الآفاق،