ومصدر كلّ رأي من تلك الآراء مجتهد مطلق يتابع دليل نفسه، فالإمامان وافقاه فيما علما فيه دليل الحكم كما علم، وهو اجتهادا لا تقليدا له، كما خالفاه، بأن الدليل لهما على خلاف رأيه، فالتوافق بينهم في الرأي لا يدلّ على التقليد، بل يدلّ على معرفة البعض دليل الحكم كمعرفة الآخرين، وإلا ما بقي في الوجود مجتهد مطلق لتوافق المجتهدين في معظم المسائل، ومنشأ ادعاء أن تلك الأقوال كلّها أقوال أبي حنيفة هو ما كان يجري عليه أبو حنيفة في تفقيه أصحابه من احتجاجه لأحد الأحكام المحتملة في مسألة وانتصاره له بأدلة، ثم كروره بالردّ عليه ينقض أدلته وبترجيحه الاحتمال الثاني بأدلة أخرى، ثم نقضها بترجيح احتمال ثالث بأدلة تدريبا لأصحابه على التفقّه على خطوات ومراحل، إلى أن يستقرّ الحكم المتعين في نهاية التمحيص، ويدوّن في الديوان في عداد المسائل الممحّصة، فمنهم من ترجّح عنده غير ما استقرّ عليه الأمر من كلّ الأقوال باجتهاده الخاص، فيكون هذا المترجّح عند قوله من وجه، وقول أبي حنيفة من وجه آخر، من حيث إنه هو الذي أثار هذا الاحتمال، ودلَّل عليه أولا، وإن عدل عنه أخيرا.
ومصداق ذلك ما أخرجه ابن أبي العوام عن محمد بن أحمد بن حمّاد عن محمد بن شجاع، سمعت الحسن بن أبي مالك، وعبّاس بن الوليد، وبشر بن الوليد، وأبا على الرازي يقولون: سمعنا أبا يوسف يقول: ما قلت قولا خالفت فيه أبا حنيفة إلا وهو قول قد قاله أبو حنيفة، ثم رغب عنه. اهـ. وحكى الكردري عن النيسابوري أن أبا يوسف لما ولي القضاء دخل عليه إسماعيل بن حماد ابن الإمام، وتقدّم إليه خصمان، فلمّا جاء أوان الحكم قضى برأي الإمام، فقال له: كنت تخالف الإمام في هذا، قال: إنما كنا نخالفه