فقال: نويتُ أن أتصدّق بها ههنا، وأنا أطلق لأهل الحرمين مثلها.
ثم نهض، فقال: أمتع الله الإسلام وأهله ببقائك، يا أمير المؤمنين! فإنك كما قال النمري لأبيك الرشيد:
إن المكارم والمِعْرُوفَ أوْدِيَةٌ … أحَلَّكَ الله منها حَيثُ تجْتمِعُ
مَن لم تِكُنْ بأمِينِ الله مُعْتصِمًا … فليْسَ بالصَّلواتِ الخَمْسِ ينْتَفِعُ
فقيل للمعتصم في ذلك، لأنه عاده، وليس يعود إخوته وأجلاء أهله، فقال المعتصم: وكيف لا أعود رجلًا، ما وقعتْ عيني عليه قطّ إلا ساق إليَّ أجرًا، أو أوجَبَ لي شكرًا، أو أفادني فائدة تنفعني في ديني ودنياي، وما سألني حاجة لنفسه قطّ.
وروى الخطيب في "تاريخه" بسنده، عن ابن الأعرابي، أنه قال: سأل رجل قاضي القضاة أحمد بن أبي دُواد أن يحمله على عَيْر، فقال: يا غلام! أعطه عيرًا، وبرذونًا، وفرسًا، وجارية.
ثم قال، أما والله ولو عرفت مركوبًا غير هذا لأعطيتُك.
فشكر له الرجل، وقاد ذلك كلّه، ومضى، انتهى.
قلت: ومثل ذلك مرويٌ عن معن بن زائدة الشيباني، وهو متقدّم على ابن أبي دُواد في الجود والوجود، فلعلّ ابن أبي دُواد حكى مكارمه الوافرة، وضارع أخلاقه الظاهرة.
ومن لطيف ما يحكى هُنا، ويشهد لما ذكرنا، عن الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد، أنه كان يعجبه الخزّ، ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يومًا إلى جميع ما فيها من الخدم والحاشية، وعليهم الخُزور الفاخرة الملونة، فاعتزل ناحية، وأخذ يكتب شيئًا، فنظر إليه الصاحب، وقال: عليّ به.