مقامه في الفقه مقام لا يلحق، شهد له بذلك أهل جلدته وخصوصا مالك والشافعي، ومن ذلك الوجه امتازوا عن المخالفين، كالأئمة الثلاثة، والأوزاعي، وسفيان، وأمثالهم، لا لأنهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد المطلق في الشرع، ولو أنهم أولعوا بنشر آرائهم بين الخلق وبثّها في الناس والاحتجاج لها بالنصّ والقياس، لكان كلّ ذلك مذهبا منفردا عن مذهب الإمام أبي حنيفة، مخالفا له. هذا وإن أراد منه الأدلة الأربعة وأصول الشريعة من الكتاب والسنّة والإجماع والقياس في الأخذ عنها والاستنباط منها، فلا سبيل إلى ذلك، لأن أصول الشريعة مستند كلّ الأئمة وملجأهم في أخذ الأحكام، فلا يتصوّر مخالفة غيره له فيها.
فإن قيل: لعل مراده أنهم يقلّدون أبا حنيفة في كون قول الصحابي والمراسيل حجّة دون الاستصحاب والمصالح المرسلة وأمثال ذلك.
قلت: هذا ليس من التقليد في شيء، بل إنما وافق رأيهم في ذلك رأيه، وقامت الحجّة وعندهم، كما قامت عنده، ألا ترى أن مالكا لا يلزمه تقليد أبي حنيفة من قوله بحجّية المراسيل، ولا الشافعي من القول بنفي الحجّية عن المصالح المرسلة، ولا تقليد بعضهم لبعض من الاتفاق في كون الإجماع وخبر الواحد والقياس حجّة، فإنه إنما أنكر حجّية الإجماع بعض المبتدعة وحجّية القياس داود الظاهري وغيره من الشذوذ.
وقد نقل عن أبي بكر القفّال وأبي علي بن خيران، والقاضي حسين من الشافعية أنهم قالوا: لسنا مقلّدين للشافعي، بل وافق رأينا رأيه، وهو الظاهر من حال الإمام أبي جعفر الطحاوي في أخذه بمذهب أبي حنيفة رحمه الله واحتجاجه له، وانتصاره لأقواله على ما قال من أول "كتاب شرح الآثار": أذكر في كلّ كتاب ما فيه من الناسخ والمنسوخ، وتأويل العلماء، واحتجاج