بعضهم على بعض، وإقامة الحجّة لمن صحّ عندي قوله منهم، ريثما يصحّ فيه مثله من كتاب أو سنة أو إجماع أو تواتر من أقاويل الصحابة أو تابعيهم رضي الله عنهم، ثم إن قوله في الخصّاف والطحاوي والكرخي: إنهم لا يقدرون على مخالفة أبي حنيفة، لا في الأصول ولا في الفروع ليس بشيء، فإن ما خالفوه فيه من المسائل لا يعدّ ولا يحصى، ولهم اختيارات في الأصول والفروع، وأقوال مستنبطة بالقياس والمسموع واحتجاجات بالمنقول والمعقول، على ما لا يخفى على من تتبَّع كتب الفقه والخلافيات والأصول، وقد انفرد الكرخي رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله وغيره في أن العام بعد التخصيص لا يبقى حجَّة أصلا، وأن خبر الواحد الوارد في حادثة تعمّ بها البلوى ومتروك المحاجّة عند الحاجة ليس بحجّة قط. وانفرد أبو بكر الرازي رحمه الله في أن العام المخصوص حقيقة إن كان الباقي جمعا، وإلا فمجاز، أفليس هذا من مسائل الأصول؟
ثم إنه عدّ أبا بكر الرازي الجصّاص من المقلّدين الذين لا يقدرون على الاجتهاد أصلا، وهو ظلم عظيم في حقّه، وتنزيل له عن رفيع محلّه، وغضّ منه، وجهل بين بجلالة شأنه في العلم، وباعه الممتدّ في الفقه، وكعبه العالي في الأصول، ورسوخ قدمه، وشدّة وطأته، وقوة بطشه في معارك النظر والاستدلال، ومن تتبّع تصانيفه والأقوال المنقولة عنه علم أن الذين عدّهم من المجتهدين من شمس الأئمة ومن بعده كلّهم عيال لأبي بكر الرازي.
ومصداق ذلك دلائله التي نصبها لاختياراته وبراهينه التي كشف فيها عن وجوه استدلالته، نشأ بـ "بغداد" التي هي دار الخلافة ومدار العلم والرشاد