ثم إنه جعل القدوري وصاحب "الهداية" من أصحاب الترجيح، وقاضيخان من المجتهدين، مع تقدّم القدروي على شمس الأئمة زمانا، وكونه أعلى منه كعبا، وأطول باعا، فكيف لا من قاضيخان.
وأما صاحب "الهداية" فهو المشار إليه في عصره، والمعقود عليه الخناصر في دهره، وفريد وقته، ونسيج وحده، وقد ذكر في "الجواهر" وغيره أنه أقرّ له أهل عصره بالفضل والتقدّم، كالإمام فخر الدين قاضيخان، والإمام زين الدين العتابي، وغيرهما، وقالوا: إنه فاق على أقرانه، حتى على شيوخه في الفقه، وأذعنوا له به، فكيف ينزل شأنه عن قاضيخان بمراتب؟ بل هو أحقّ منه بالاجتهاد، وأثبت في أسبابه، وألزم لأبوابه. هذا.
ثم لم يحصل من بيانه فرق بين أهل الطبقة الخامسة والسادسة، وليت شعري بأيّ قياس قاسهم، ووجد هذا التفاوت بينهم، وهو قليل الممارسة في الباب، قليل المؤاسنة بمن ذكره في الكتاب، ولا يعرف كثرا منهم، وربما يجعل الواحد اثنين، ويعكس الأمر، ويقدّم على ما هو عليه، ويؤخّر، وينسب كثيرا من الكتب إلى غير أصحابها، فكيف يعرف طبقاتهم، ويميز في الفقه درجاتهم، والحال أن العلم بهذه الكلية كالمتعذّر بالنسبة إلى أجلّة الفقهاء وأئمة العلماء، فإنهم كالحلقة المفرغة، لا يدر أين طرفاها، على ما يشير إليه قوله تعالى:{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}. (الزخرف الآية ٤٨) يريد والله أعلم أن كلّ آية إذا جرّد النظر إليها قال الناظر: هي أكبر الآيات، وإلا فلا يتصوّر أن يكون كلّ آية أكبر من الأخرى من كلّ جهة للتناقض، ولكن لما كان الغالب على فقهاء "العراق" السذاجة في الألقاب وعدم التلوّن في العنوانات والجدّ في الجري على منهاج السلف في التجافي عن الألقاب الهائلة والأوصاف الحافلة، والتحاشي عن الترفّع وتنويه النفس