وإعجاب الحال تديّنا وتصلّبا وتورّعا وتأدّبا، كما كان الغالب عليهم الخمول والاجتناب عن ولاية القضاء وتناول الأعمال السلطانية، لأن منازع الأتباع ما كانت مفارقة عنهم، ولا شعارهم متحوّلا إلى شعار غيرهم، فكانوا يذهبون مذهبهم في الاكتفاء بالتميّز عن غيرهم بأسماء ساذجة، يتبذّلها العامة، ويمتهنها السوقة، من الانتساب إلى الصناعة أو القبيلة أو القرية أو المحلّة أو نحو ذلك، كالخصّاف، والجصّاص، والقدوري، والثلجي، والطحاوي، والكرخي، والصيمري، فجاء المتأخّرون منهم على منهاجهم في الاكتفاء بها، وعدم الزيادة عليها في الحكاية عنهم.
وأما الغالب على أهل "خراسان" ولا سيّما "ما وراء النهر" في القرون الوسطى والمتأخّرة فهو المغالاة في الترفّع على غيرهم، وإعجاب حالهم، والذهاب بأنفسهم عجبا وكبرياء، والتصنّع بالتواضع سمعة ورياء، يستصغرون الأحاديث عمن سواهم، ولا يستكرمون في معمورة الأرض مثوى غير مثواهم، قد تصوّر كلّ منهم في خلده أن الوجود كلّه يصغر بالإضافة إلى بلده، فلا جرم جرى عرق منهم في علمائهم، فلقّبوا بالألقاب النبيلة، ووسّموا بالأوصاف الجليلة، مثل شمس الأئمة، وفخر الإسلام، وصدر الشريعة، واستمرّت الحال في أخلافهم على ذلك المنوال من الإتراف والغلوّ في تنويه أسلافهم والغضّ من غيرهم، فإذا ذكروا واحدا من أنفسهم بالغوا في وصفه، وقالوا: الشيخ الإمام الأجلّ الزاهد الفقيه، ونحو ذلك، وإذا نقلوا كلاما عن غيرهم، فلا يزيدون على مثل قولهم: قال الكرخي والجصّاص، وربما يقتدي بهم من عداهم ممن يتلقّى منهم الكلام.
فيظنّ الجاهل بأحوال الرجال ومراتبهم في الكمال وطبقات العلماء ودرجات الفقهاء ظنّ السوء، فيأخذ بالاستدلال بنباهة الأوصاف على نباهة