نهايته في معرفة علل الحديث كان مسلم بن الحجاج يقول له: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ويا طبيب الحديث في علله.
وقال الترمذي: لم أر أحدا بـ "العراق" ولا بـ "خراسان" في ذلك أعلم منه، وكان بـ "سمرقند" أربعمائة محدث، اجتمعوا تسعة أيام لمغالطته، فخلطوا الأسانيد بعضها في بعض إسناد الشاميين في العراقيين، وإسناد العراقيين في الشاميين، وإسناد أهل الحرم في اليمانيين، وعكسه، وعرضوها عليه، فما استطاعوا مع ذلك أن يتغلبوا عليه بسقطة، لا في إسناد ولا في متن، ولما قدم "بغداد" فعلوا معه نطير ذلك، فعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، ودفعوا لكل واحد عشرة، ليلقيها عليه في مجلسه الغاص بالناس، امتحانا، فقام أحدهم، وساله عن حديث من تلك العشرة، فقال: لا أعرفه، ثم سأله عن الثاني، فقال: مثل ذلك، وهكذا إلى العاشر.
ثم قام الثاني، فكان كالأول، ثم الثالث، وهكذا إلى أن فرغوا، فالعلماء الذين كانوا مطلعين على أصل القضية وحفظه، قالوا: فهم الرجل والذين ما كان لهم وقوف على القضية توهموا عجزه، وحملوا على قصور ضبطه، وسوء حفظه، فالتفت إلى الأول، فقال أما حديثا الأول بذلك الإسناد فخطأ، وصوابه كذا وكذا، ولا زال على ذلك إلى أن أكمل المائة، فبهر الناس، وأذعنوا له، فإن عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، وعند المبصرين بهذا الفن ليس من العجيب رد خطئهم إلى الصواب، لأنه كان حافظ الأحاديث مع الأسانيد، بل كان الغريب عندهم حفظه أسانيدهم الباطلة بمجرد سماعه مرة، وإعادتها مرتبة، وهذا كاد أن يكون خرق العادة ومحض الكرامة، فإنه لا يتصور بدون الإلهامات الإلهية والعنايات الرحمانية.
ولما قدم "البصرة" نادى مناد يعلمهم بقدومه، فأحدقوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء، فأجابهم، فنادى المنادى يعلمهم أنه أجاب، فلما كان من الغد اجتمع كذا وكذا ألفا من المحدثين والفقهاء، فأول ما جلس قال