للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإجرام، فهي شدة في نطاق محدود، تفضي إلى رحمة واسعة شاملة بالنسبة إلى المجتمع الواسع العريض، كيف لا، وشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة، أليس الله هو القائل: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام:٥٤/ ٦] وهو الرحمن الرحيم حيث نذكر الله في كل وقت وحين. والرسول يقول: «الراحمون يرحمهم الرحمن» (١)، بل أمرنا بالشفقة على الحيوان. وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تحمل أحكامها في الحدود على محمل الشدة والقسوة، وإنما هي رحمة بالناس في مجموعهم. والنظر إلى أثر الحدود على القلة التي تتعرض لها دون نظر إلى أثرها في المجتمع ككل، هو نظر مقلوب ومعكوس. ويكاد أن يكون نظراً مغرضاً ومريباً؛ لأن العبرة بمصلحة الناس في مجموعهم، وليست بمصلحة مجرمين ثبت جرمهم، ولم يدرأ عنهم الحد شبهة.

ومع ذلك فلا يغرب عن البال أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات. ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفادياً لتوقيع الحدود إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هاتيك الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن. بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد ـ بأصوله الشرعية ـ أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن، قلت أم كثرت. وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة إعلامية زاجرة تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض.

ومما يجب الانتباه له أن الإسلام قبل تشريع الحدود، شرع تشريعات واقية من


(١) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بلفظ «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، والرحمة شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» وشجنة: عروق الشجر المشتبكة.

<<  <  ج: ص:  >  >>