للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يدل هذا على أن العقوبات التعزيرية معروفة أيضاً في الشريعة، وقد أوضحها الفقهاء في كتبهم، لكنهم قد يذكرونها إجمالاً، ويتركون اختيار إحداها للقاضي يفعل ما يراه محققاً للمصلحة من العقاب، وفي هذا مرونة ومنح للقاضي شيئاً من الحرية، وإعطاؤه سلطة تقديرية، وقد يحدد الفقهاء العقوبة الخاصة بكل جريمة على حدة، فتكون الكتب الفقهية بمثابة التقنينات، وإن كان ينقصها الجمع والتنظيم والإيجاز وحسن التبويب والتفصيل، لتعرف عقوبة كل جريمة بعينها. وليس للقاضي أصلاً الحكم بعقوبة غير مألوفة شرعاً، أما إن لم يكن في الكتب أحياناً تقدير محدد لعقوبة كل جريمة بذاتها، فحينئذ يتمكن القاضي من اختيار نوع العقوبة الملائم قدرها للجريمة، ومراعاة ظروف الجاني وأحواله تغليظاً أو تخفيفاً، لأن المقصود من التعزير: هو الزجر، والناس يتفاوتون بتفاوت مراتبهم فيما يحقق الهدف المقصود من العقاب، ولأنه قد تحدث جرائم لم يألفها الناس، حسبما تقتضي طبيعة التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وقد يتفنن المجرمون في ابتكار ألوان مختلفة لجريمة واحدة، كما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «سيحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» (١).

وإذا حكم القاضي بالضرب، فليس لأقله حد معين، فهو سوط فأكثر، ويفعل ما يراه محققاً للمصلحة والزجر. وأما أقصى الضرب فهو مقيد بألا يتجاوز مقداراً معيناً، وهو ما دون أقل الحدود الشرعية، للحديث المتقدم: «من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين».

لكن اختلف الفقهاء في أكثر الضرب، فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود الشرعية، وهو أربعون جلدة، وإنما ينقص


(١) انظر كتاب الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله للكاتب صاحب البحث.

<<  <  ج: ص:  >  >>