فقير إليه. فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية. فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته. ولا شك أن النهي عن الأدنى، وإن أفاد النهي عن الأعلى، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى. وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد. ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل. فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه. حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم. ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب، كإعانتها عليه في الصورة الأولى.
ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل. مع أن تناول مال اليتيم، على أي وجه كان، منهيّ عنه. كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلا، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل. وتعدّ البطنة من البهيمية. وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ. فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا. فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به. حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: ١٣٠] . فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر. وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيها على الأعلى. وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ الآية [النساء: ٨] ، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال. فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم. بخلاف ما إذا حضروا. فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد. فإذا أمرت في هذه الحالة