المتقدمين. كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية، بآية أخرى نفسية علمية، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري. وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ، لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه. فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف. فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبيّ أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب.
وكون الكتاب بيّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم.
وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول، أن السورة مكية. وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه.، وللبحث تفصيل في موضع آخر. وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا إلخ [البقرة: ٢٣] ، وقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: ١٠٦] ، والمقصود أنه تعالى، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدّم، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء، ردّا للحق، وعنادا للهدى، وتوليا للشيطان، وتعبّدا لوسوسته، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي، كما قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ واعتراض قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله: قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بالآية رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل عليه السلام. أضيف إلى القدس وهو الطهر.
كما يقال (حاتم الجود وزيد الخير وخبر السوء ورجل صدق) والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد وزيد الخيّر والخبر السيء والرجل الصادق. وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به. والمقدس المطهر من الأدناس البشرية وإضافة (الرب) إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية. وقوله بِالْحَقِّ أي متلبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره، وقوله تعالى: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أي على الحق ونبذ وساوس الشياطين. وفي قوله تعالى: وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.