وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك أنه صدع بالحق أبلغ صدع. فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس. وروّح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة- خلة البغي وعدم الإنصاف- مع الخلطة والخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل (إن التأسي روح كل حزين) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟. وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق على أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونوا فيه الفصول، ومع ذلك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه بتلك الحكومة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر منه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربا وَحُسْنَ مَآبٍ أي مرجعا حسنا وكرامة، في الآخرة.
[تنبيهات:]
الأول- للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألمّ به داود عليه السلام ثم غفر له، ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار لها بذلك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال: هذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه.
وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة، فلما قتل نكح، فيما ذكر، داود امرأته، ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخرّ ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله ابن جرير. ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس والسدّيّ وعطاء والحسن وقتادة ووهب ومجاهد. ومن طريق عن أنس مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن قال السيوطي في (الإكليل) : القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا. وفي إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشيّ وهو ضعيف. وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا. انتهى.