الوجود، فكيف يجوز على الله- وهو أحكم الحاكمين- بأن يكلف الأمة- وهي في دور طفوليتها- بما لا تتحمله إلّا في دور شبوبيتها وكهولتها ... ؟ وأي الأمرين أفضل: أشرعنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمه- بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقضوا حرفا منه- لانطباقه على كل زمان ومكان، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الإنسان..؟! أم شرائع دينية أخرى، حرّفها كهانها، ونسخ الوجود أحكامها- بحيث يستحيل العمل بها- لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه ... ؟!
الثاني: أسلفنا- في مقدمة التفسير- إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، بما ينبغي مراجعته..
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَمْ هنا، إما متصلة معادلة للهمزة في أَلَمْ تَعْلَمْ أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور، قادر على الأشياء كلها، يأمر وينهى كما أراد ... أم تعلموا وتقترحون بالسؤال- كلما اقترحت اليهود على موسى عليه السّلام؟ وإما منقطعة- بمعنى بل- للإضراب والانتقال عن حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك، وأمارات التأثّر من أقاويل الكفرة، إلى التحذير من ذلك. ومعنى (الهمزة) إنكار وقوع الإرادة منهم، واستبعاده. لما أن قضيّة الإيمان وازعة عنها. وتوجيه الإنكار إلى الإرادة- دون متعلّقها- للمبالغة في إنكاره واستبعاده، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته. فضلا عن صدور نفسه، وقوله وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ أي:
يختره، ويأخذه لنفسه بِالْإِيمانِ. بمقابلته بدلا منه فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي عدل عن الصراط المستقيم. جملة مستقلة مشتملة على حكم كلّي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله أَمْ تُرِيدُونَ إلخ، معطوفة عليه. ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان. فظهر وجه ذكر قوله أَمْ تُرِيدُونَ إلخ بعد قوله تعالى ما نَنْسَخْ. فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها.