الإتيان بما أمر به من التبليغ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مما يفصّل مساوئ الكفار، ومن قتالهم، والدعوة إلى الإسلام، غير مراقب في التبليغ أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي: ما تؤمر به من تبليغ الجميع، سترا لبعض مساوئهم فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي: شيئا مما أرسلت به. لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض.
فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا. كما أنّ من لم يؤمن ببعضها، كان كمن لم يؤمن بكلّها.
قال في (الانتصاف) : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوما عند الناس، مستقرّا في الأفهام أنه عظيم شنيع، ينقم على مرتكبه، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول- استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء، للصوقها بالجزاء في الأفهام. وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامّا بقوله وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة. حتى يكون اللفظ متغايرا، وهذه المغايرة اللفظية- وإن كان المعنى واحد- أحسن رونقا وأظهر طلاوة، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء. وهذا الفصل كاللباب من علم البيان.
وقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ عدة منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة، باعث له على الجدّ فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تعليل لعصمته، أي: لا يهديهم طريق الإساءة إليك، فما عذرك في مراقبتهم؟
[تنبيهات:]
الأول: لا خفاء في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ التام، وقام به أتمّ القيام، وثبت في الشدائد وهو مطلوب، وصبر على البأساء والضرّاء وهو مكروب ومحروب، وقد لقى بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهدّ الصياصي. وهو، مع الضعف، يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته، وأحدقوا بجنباته، وصار بإئثانه في الأعداء محذورا، وبالرعب منه منصورا، حتى أصبح سراج الدين وهّاجا، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
روى البخاريّ «١» ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها، قالت لمسروق:
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٧- باب يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، حديث ١٥٢٨.