للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي: يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، لا يخفى عليه شيء منها. وَهُوَ اللَّطِيفُ أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة، الْخَبِيرُ أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها. وجوز أن تكون الجملة تعليلا لما قبلها، على طريقة اللف، أي: لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير. قيل: فيكون اللَّطِيفُ مستعارا من مقابل الكثيف، فشبه به الخفيّ عن الإدراك. وهذا بناء على أنه في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم. والتحقيق أن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم، لأن الجسمية يلزمها الكثافة، وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق، الذي يجلّ عن إدراك البصائر، فضلا عن الأبصار، ويعز عن شعور الأسرار، فضلا عن الأفكار، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال، وينزه عن حلول الألوان والأشكال. فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة، ويوصف بالنسبة إليه بالكثافة- كذا حققه البهائي في (شرح الأسماء الحسنى) . وقول الخفاجي: (اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة) ، لا يظهر له مناسبة هنا- مدفوع بملاحظة أن قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ذكر للتخويف، كما أسلفنا، وحينئذ يناسب أن يشفع ببيان رأفته ورحمته، جريا على سنن الترغيب والترهيب.

[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٤]]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)

وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي: الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة. جمع (بصيرة) ، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء، والعلم به. وجوّز أن يكون المعنى: قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب، جمع (بصيرة) وهو النور الذي يستبصر به القلب، كما أن البصر نور تستبصر به العين.

فَمَنْ أَبْصَرَ أي: الحقّ بتلك البصائر وآمن به فَلِنَفْسِهِ أي: فلنفسه أبصر، لأن نفعه لها، وَمَنْ عَمِيَ أي: ضل عن الحق. والتعبير عنه ب (العمى) للتقبيح له، والتنفير عنه، فَعَلَيْها أي: فعلى نفسه عمى، وإياها ضر بالعمى. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>