وقوله: فَمَنْ أَسْلَمَ.. إلخ من كلام الله أو الجن. قال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا، أن الله تعالى أوعد قاسطيهم، وما وعد مسلميهم، وكفى به وعدا أن قال فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً فذكر سبب الثواب وموجبه. والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثيب الراشد. أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
أي توقد بهم، كما توقد بكفار الإنس. وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أي الجن أو الإنس أو كلاهما عَلَى الطَّرِيقَةِ أي طريقة الحق والعدل لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي لوسعنا عليهم الرزق.
وإنما تجوز بالماء الغدق، وهو الكثير، عما ذكر، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب. أو لأن غيره يعلم منه بالأولى. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي عبادته أو موعظته يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً أي شديدا شاقّا.
قال الزمخشري: الصعد: مصدر صعد. يقال: صعد صعدا وصعودا. فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب، أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أي مختصة به فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً أي فلا تعبدوا فيها غيره. تعريض بما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى بمسجده الحرام، ونصبهم في التماثيل والأنصاب، وبما عليه أهل الكتاب. فإن المساجد لم تشد إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده. ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمه.
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم، يَدْعُوهُ أي يعبد ربه، كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي جماعات بعضها فوق بعض، تعجّبا مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. فالضمير في (كادوا) للجن. وقد بيّن ذلك حديث البخاريّ كما تقدم. وجوّز رجوعه للمشركين بمكة. والمعنى: لما قام رسولا يعبد الله وحده، مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه، وتعاونهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين- حكاه الزمخشري- ثم