فرط منهم من فرطات. قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة. والالتفات إلى الاسم الجليل أولا، لتهويل الخطب وتربية المهابة. والإظهار في موضع الإضمار ثانيا، لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي مبالغا في المغفرة والرحمة. حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصا مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه لتجويده الكلام، وإجادته في المقام. وهكذا عادتنا في كل مجوّد، أن ننقله ولا نتصرف فيه.
[بقي في الآية لطائف نشير إليها:]
الأولى- فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين. وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها. وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. انتهى.
وقيل: المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعية والاختيارية، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وبعرضها، استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار، وإرادة صدوره من غيره- وبحملها، الخيانة فيها والامتناع عن أدائها، فيكون الإباء امتناعا عن الخيانة وإتيانا بالمراد. فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها، أبين الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها. حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة. كما قال:
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] ، وخانها الإنسان حيث لم يأت- وهو حيوان عاقل صالح للتكليف- بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا. وإرادة الخيانة من حملها، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله. كما يقال (ركبته الديون) وقرره الزمخشريّ بقوله: وأما حمل الأمانة فمن قولك (فلان حامل للأمانة ومحتمل لها) تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج عن عهدتها. لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حاملها. ألا تراهم يقولون (ركبته الديون) و (لي عليه حق) فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ومنه قولهم (أبغض حق أخيك) لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤدّه. وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى (فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان) فأبين إلا أن يؤدينها. وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه