ما يستغني به. فيدله على معرفة مطلوبه. فلما حثّ الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بيّن حال الكفار- في تركهم الرشاد، واتباعهم الآباء والأجداد- ليحذّر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان وحقيقته. ثمّ قال أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيها على أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء. إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله يَعْقِلُونَ ويَهْتَدُونَ وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل: قد تقدم أن (العاقل) يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود هاهنا. و (المهتدي) قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم فبيّن أنهم لا يعقلون ولا يهتدون. ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإن كان كثيرا ما يتلازمان، فإنّ العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا مستقيم.
ثمّ ضرب تعالى للكافرين مثلا فظيعا كما قال سبحانه لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ [النحل: ٦٠] . فقال:
صاح بها وزجرها. وقوله تعالى بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً أي: بالبهائم التي لا تسمع إلّا دعاء الناعق ونداءه- الذي هو تصويت بها، وزجر لها- ولا تفقه شيئا آخر، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون. وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد. فكأن وفاء اللفظ: مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم. وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب. ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين، يقتصر على تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا. أشار لذلك الحراليّ فيما نقله البقاعي عنه.
وقال الفراء: أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا، ثمّ شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم. والمعنى- والله أعلم- مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول