لكونه متلبسا بِالْحَقِّ من جميع الوجوه لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الاعتقادات والأعمال التي كانوا عليها قبل ذلك أمة واحدة، فسلكوا بهم، بعد جهد، السبيل الأقوم، ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي: الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي: علموه فبدّلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف. ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته بل مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ- أي: الدلائل الواضحة- بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: حسدا وقع بينهم فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالكتاب لِمَا اخْتَلَفُوا أي: أهل الضلالة فِيهِ مِنَ الْحَقِّ أي: للحق الذي اختلفوا فيه. وفي إبهامه أولا، وتفسيره ثانيا، ما لا يخفى من التفخيم، بِإِذْنِهِ أي: بتيسيره ولطفه، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
تقرير لما سبق.
وفي (صحيح مسلم)«١» عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان- إذا قام من الليل يصلّي- يقول: اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السموات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم..!.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي: من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين، أي: والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة، سنة الله التي لا تتبدّل مَسَّتْهُمُ استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: كيف كان مثلهم؟ فقيل: مسّتهم الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ أي: الشدائد والآلام وَزُلْزِلُوا أي:
أزعجوا، ممّا دهمهم من الأهوال والإفزاع، إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة التي تكاد تهدّ الأرض وتدك الجبال حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ أي: انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول- وهو أعلم الناس بشئون الله تعالى،