ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في تضحية النفس شهادة للحق، واستماتة دونه، وإعلاء لكلمته، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده، وقد أعدّ لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة. وفي لفظ (الاتخاذ) المنبئ عن الاصطفاء والتقريب، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى وقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن القيّم: تنبيه لطيف الموقع جدا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه، ولم يتخذ منهم شهداء، لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه. انتهى-.
فالتعريض بالمنافقين. ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم، تنبيها على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين. ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله:
[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤١]]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي لينقّيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس. وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين، فتميزوا منهم. فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوّ. ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يهلكهم، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا. فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذ جرت سنة الله تعالى، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم. ومن أعظمها، بعد كفرهم، بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم. والمحق ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء، وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأصرّوا على الكفر جميعا، ثم أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه فقال: