وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه.
وفي الآية مسائل:
الأولى- قال الرازي في قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِي: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) : أي عن الذكر الذي أنزلته. و (الذكر) هنا مصدر مضاف إلى الفاعل.
ك (قيامي وقراءتي) لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا. قال تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء: ٥٠] ، وقال تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران: ٥٨] . وقال تعالى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [القلم: ٥٢] . وقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: ٤١] . وقال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] ، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: ٣] ، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل