سُورَةٌ أَنْزَلْناها خبر محذوف. أي هذه السورة. والتنكير للتفخيم وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيّا وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرونها فتعملون بموجبها. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله، في تفسير هذه الآيات: هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه. ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود. وبيّن فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنى وفريضة شهادة المتلاعنين. كل منهما يشهد أربع شهادات بالله. ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان. سواء كان في منزله أو ولايته. ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه. إذ الحقوق نوعان: نوع لله فلا يتعدى حدوده، ونوع للعبادة فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك، فليس لأحد أن يفعل شيئا في حق غيره إلا بإذن الله. وإن لم يأذن المالك فإذن الله هو الأصل، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه. ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة. كالصلاة والجهاد ونحوهما. ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء. وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وعن الصبر على ذلك، فإنه ضياء. فإن حفظ الحدود بتقوى الله، يجعل لصاحبه نورا. كما قال تعالى:
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ... [الحديد: ٢٨] الآية. فضدّ النور الظلمة، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال لمؤمنين بأعمال الكفار. وأهل البدع والضلال. فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ [النور: ٣٩] الآية، إلى قوله: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ ... [النور: ٤٠] الآية، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة. وظلم العبد نفسه من الظلم. فإن للسيئة ظلمة في القلب، وسوادا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصا