وإنما خصّ التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة. حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. انتهى.
وقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بيان للعناية الربانية، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنّتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال، لإقامة الحجة وقطعا للعذر. والعذاب أعمّ من الدنيويّ والأخرويّ، لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] وقال تعالى:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: ٨- ٩] ، وكذا قوله: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر: ٧١] ، وقال تعالى:
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: ٣٧] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوما عذاب استئصال، ولا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسل. قال قتادة: إن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخبر أو بيّنة. ولا يعذب أحدا إلا بذنبه. وقوله تعالى:
[القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ١٦]]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة. وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم. وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيويّ لانحصارها فيه. والمعنى: إذا أردنا أن نعذب قوما عذاب استئصال أَمَرْنا مُتْرَفِيها
يعني متنعميها، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم فَفَسَقُوا فِيها
بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فوجب عليها، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله، من الهلاك بعد