صلّى الله عليه وسلّم قراءة كل من المختلفين وقطع بأنها كذلك أنزلت من عند الله.
[افتراق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء]
قال ابن الجزريّ، بعد ما تقدم: وبهذا افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء، فإن اختلاف القراء كله حق وصواب نزل من عند اللَّه وهو كلامه لا شك فيه. واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهاديّ، والحق في نفس الأمر واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، نقطع بذلك ونؤمن به.
[معنى إضافة القراءة إلى من قرأ بها]
ثم قال ابن الجزريّ، بعد ما تقدم: ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم إنما هو من حيث إنه كان أضبط له وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك. وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم. المراد بها أن ذلك القارئ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به. فآثره على غيره وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعرف به، وقصد فيه وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد.
ثمرة اختلاف القراءات وتنوّعها
قال في النشر: «وأما فائدة اختلاف القراءات وتنوعها فإن في ذلك فوائد غير ما قدمنا من سبب التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة. فمنها: ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار وجمال الإيجاز، لأنّ كلّ قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات. ومنها: ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدلالة، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضادّ ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضا، ويبيّن بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد، وما ذلك إلا آية بالغة وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلّى الله عليه وسلّم. ومنها: سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة. فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدّي معاني تلك القراءات المختلفات، لا سيما في ما كان خطه واحدا، فإن ذلك أسهل حفظا، وأيسر لفظا.