إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مستوفي مدة إقامتك بين قومك.
والتوفي، كما يطلق على الإماتة، كذلك يطلق على استيفاء الشيء. كما في كتب اللغة. ولو ادعي أن التوفي حقيقة في الأول، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول: لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة. وهذا الوجه ظاهر جدا، وله نظائر في الكتاب العزيز، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: ٤٢] . قال الزمخشريّ: يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى. ومنه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: ٦٠] . حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك- انتهى كلامه- ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال:
وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من مكرهم وخبث صحبتهم وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته كقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء: ١٥٨] . وقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: ٥٠] . وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: ٥] . وقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ [الملك: ١٦] . وهو مذهب السلف قاطبة كما نقله الإمام الذهبيّ في كتاب (العلوّ) . قال أبو الوليد بن رشد في (مناهج الأدلة) : لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة (الفوق) حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله- إلى أن قال: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السموات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول. وبيّن بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم- إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل.